الحضارة والوحشيّة: قراءةٌ إنسانيّةٌ في رواية حارس أشجار المقبرة وفيلم حياة الماعز
الأب الدكتور سميح رعد[1]
تقدّم لنا رواية حارس أشجار المقبرة، لعاطف صالح، الصادرة عن دار صوفيا في الكويت، هذا العام 2024، قصّة إسحاق أيّوب، مهاجرٌ أسودٌ يبحث عن حياةٍ جديدةٍ في فرنسا، لكنّه يجد نفسه أسيرًا لمصيرٍ غير متوقّع وصعب التغيير. بعدما تمّ تعيينه للعمل كحارسٍ في مقبرةٍ باريسيّةٍ لمدّة ثلاثة أشهر، يجد نفسه مرغمًا على البقاء في هذا المكان لمدّة ثلاثين عامًا، حيث يلتقي الموت بالحياة ويتداخلان.
تسلّط هذه الحالة الضوء على لعبة المصير الإنسانيّ القاسي والطريقة التي يمكن أن تعطّل بها المشاريع الإنسانيّة بفعل قوًى غير متوقّعة. تتحوّل المقبرة، التي تعدّ رمزًا لنهاية الإنسان الأرضيّة، إلى مكانٍ للتأمّل الوجوديّ العميق، حيث يمتدّ الزمن ويعاد تقييم ملامح الوجود وتحديده. إسحاق، المحبوس في هذا الفضاء الرمزيّ، يواجه ثنائيّة الحالة الإنسانيّة، حيث يتأرجح بين الرغبة في التجديد وثبات المصير.
سكّان الحيّ، المليئون بالشكوك والعداء، يرفضون تمامًا فكرة تعيين هذا الغريب لحراسة موتاهم. يغلقون الأبواب أمام أيّ شكلٍ من أشكال التواصل معه، وحتى مجرّد رؤيته خارج أسوار المقبرة يكفي لإثارة مشاعر الازدراء. يصبح إسحاق، رغم وجوده المادّيّ، كأنّه طيف، منبوذًا على هامش المجتمع. تعكس هذه الحالة تناقضًا عميقًا: الفرد الذي تتلاشى واقعيته المادّيّة بسبب رفض المجتمع له والاعتراف به. تجربة إسحاق تثير تساؤلاتٍ جوهريّةً حول طبيعة القبول والوهم المتعلّق بالظهور في عالمٍ يكون القبول الحقيقيّ والكرامة غالبًا مشروطين بمعاييرَ وأحكامٍ مسبقةٍ تعسفيّة.
بمرور الوقت، تتغلغل الوحدة ويزداد الرفض في أعماق إسحاق أيّوب، محدثَين ألمًا مزمنًا وغربةً وجوديّةً قاسية. في عدّة مناسبات، يصل إلى حدّ الانهيار، الذي دفعه حتى اليأسِ ليمقت نفسه. ولكن في كلّ مرّة، تمنعه قوة الحياة عينها لعدم الانصياع لتلك الرغبة المدمّرة. صراعه الداخليّ والصامت يصبح شهادةً على قدرة الإنسان على الصمود في وجه التمييز والعزلة.
كان يعتقد إسحاق منذ زمنٍ طويلٍ أنّ الأفراد الذين يتصرّفون بوحشيّةٍ هم مجرّد “ذئابٍ خاطفة”، استثناءاتٌ ضمن المجتمع، وليسوا تجسيدًا لشرٍّ جماعيّ. كان يؤمن أنّ الإنسانيّة، رغم عيوبها، تحافظ على جوهرٍ نقيٍّ صالح. ومع مرور الوقت، اضُطر إلى إعادة النظر في هذه الرؤية المثاليّة. بدأ يدرك واقعًا أكثر سوداويّة: إنّها الوحشيّة التي تتسرّب بشكلٍ خفي، وهي لم تعد تقتصر على بعض الأفراد بل تبدو وكأنّها تتغلغل تدريجيًّا في نسيج المجتمع بأسره. هذه الحقيقة جعلته يتساءل عن طبيعة الشرّ ويعيد التفكير في إمكانيّة أن تكون هذه الوحشيّة، بعيدًا عن كونها استثناء، جزءًا من البنية الأساسيّة للطبيعة البشريّة.
على الرغم من وجود قوانين صارمةٍ تهدف إلى تنظيم العلاقات بين البشر وحمايتها، كان إسحاق يراقب بمرارةٍ كيف أنّ هذه القوانين فشلت في كبح العنف المتأصّل في الكائن البشريّ. تلك القوانين، التي كان يقدّرها في السابق، أصبحت تبدو الآن كأبنيةٍ هشّة، غير قادرةٍ على إخفاء الطبيعة الغاشمة المفترسة لبعض الأفراد. لم تعد الوحشيّة مجرّد شذوذٍ مؤقّت، بل أصبحت تبدو وكأنّها مبيّتةٌ وقابعةٌ تحت قناع الحضارة. هذا الوعي دفعه إلى تأمّلٍ أعمق في الفجوة بين ظاهر الحضارة والواقع المظلم للطبيعة البشريّة، متسائلًا عن فعاليّة الهياكل القانونيّة في مواجهة الدوافع الأساسيّة للوجود الكيانيّ البشريّ.
وجد إسحاق أيّوب نفسه أمام معضلةٍ وجوديّة: هل يجب عليه أن يستمرّ في الإيمان بالإنسانيّة، أي ببشريّةٍ مفعمةٍ بالتضامن، أم أن يستسلم لخيبة الأمل في عالمٍ تسوده اللامبالاة والعنف؟ كانت هذه الحقيقة المكتشفة تقضم تدريجيًّا آماله، وتعزّز شعوره بالعزلة في عالمٍ أصبح غريبًا ومعاديًا. هذه المواجهة بين مثاليّاته والواقع القاسي للوجود كانت تُبْرز الصعوبة في الحفاظ على الإيمان بالخير البشريّ عندما يواجه حجم اليأس والوحشيّة السائدَين. وهكذا، وجد إسحاق نفسه يتساءل من جديدٍ عن قدرة الإنسانيّة على تجاوز ظلماتها، ويعيد النظر في طبيعة التضامن في عالمٍ يفتقر حتى إلى الأمل.
الهدف الأبعد الذي يتجاوز الإطار الجماليّ لرواية حارس أشجار المقبرة هو أن تكون أساسًا للنسيج الاجتماعيّ من خلال تعزيز الروابط بين الأفراد، والمثبَتة ضمن إطارٍ قانونيٍّ مصاغٍ بدقّة. من خلال تقديم تحليلٍ نقديٍّ للعلاقات الاجتماعيّة واستكشاف آليّات التنظيم الاجتماعيّ، تلعب الرواية دورًا حيويًّا في تعزيز “رأس المال الاجتماعيّ” أي الجماعة الإنسانيّة. فهي تهدف إلى دعم التماسك الاجتماعيّ من خلال دراسة التفاعلات البشريّة، من خلال منظار القيم والمعايير الجماعيّة. وبالتالي، تُسْهِم الرواية في استقرار الهياكل الاجتماعيّة وتقديم مشروعيّةٍ للقوانين التي تنظّم الحياة المشتركة، ممّا يعزّز العقد الاجتماعيّ وعمليّات التكوين الجمعيّ.
في رواية حياة الماعز، التي كتبها بليسي إيبي توماس والتي تحوّلت إلى فيلمٍ أثار جدلًا كبيرًا. يتشابه هذا الفيلم برواية عاطف صالح حارس أشجار المقبرة في وصف الهجرة والمهاجر نجيب محمد الساعي إلى حياةٍ كريمة. يعرض دور الكفيل كركيزةٍ أساسيّةٍ للنظام الاجتماعيّ في المملكة العربيّة السعوديّة. يكشف السرد أنّ النظام لا يتمثّل في الأفراد الذين يتنقّلون ضمن شبكةٍ معقّدةٍ من العلاقات الإنسانيّة – بغضّ النظر عن الجنسيّة أو الدين أو العرق – بل في دور الكفيل الذي يشكّل الاستقرار الاجتماعيّ وينظّمه. تدعو هذه الرؤية إلى تأمّلٍ إنسانيٍّ حول كيفيّة تأثير الأنظمة الرسميّة للدعم على التماسك الاجتماعيّ، متسائلةً عن الفكرة القائلة إنّ العلاقات الإنسانيّة هي المحرك الحقيقيّ للتناغم. وهكذا، يستكشف الفيلم التوتّر بين الهياكل المؤسسيّة للسلطة والديناميّات بين الأفراد، مستفسرًا عن طبيعة السلطة وطبيعة التضامن في المجتمع المعاصر.
يَبرز التباين بين هذا النظام البسيط ونظام العلاقات البشريّة المتشابكة والمعقّدة، حيث تُغلّف حياتنا الاجتماعيّة بشبكةٍ من التفاعلات المتناقضة والمربكة. يتنقل البشر بين مصالح متضاربة، وتحيّزاتٍ متزايدة، وتوقّعاتٍ غير متوافقة، ممّا يخلق صراعاتٍ وتوتّراتٍ تتفاقم بسبب اختلافات الجنسيّة والدين والثقافة.
إضافةً إلى ذلك، إنّ فيلم حياة الماعز يعاني من غيابٍ واضحٍ لـ”صدق النية”، وهو مفهومٌ رئيسيٌّ في علم اجتماع الفنّ. وراء الجماليّات تختبئ “عوامل هدمٍ” تسعى إلى تشكيل الخيال الجماعيّ من خلال تصوير الآخر، فردًا أو مجموعة، على أنّه “ذئبٌ خاطفٌ”، ممّا يرمز إلى غربةٍ مُهَدِّدَة. هذه المحاولة لتشويه النظام الاجتماعيّ تقلّل من قيمة العمل ليصبح مجرّد أداةٍ أيديولوجيّة. إنّ غياب الأصالة يجرّد هذا الفيلم من أيّ قيمةٍ جوهريّة، مثل بنيةٍ جذّابةٍ ولكنّها فارغةٌ من الداخل، حيث تُسْتَبْعَد الأخلاق لصالح استغلالٍ محضٍّ للتمثيلات الاجتماعيّة.
وخلف غياب “صدق النيّة” ماذا يختفي؟ تظهر فكرةٌ سوسيولوجيّةٌ أعمق وهي “تفكيك الفعل الجماعيّ” الذي نسميه “تفكيك العزيمة”. يتجلّى هذا المفهوم من خلال إدخال أفكارٍ في اللاوعي الجماعيّ: إنّ في مجتمعك “ذئابٌ خاطفةٌ” أو “ذئابٌ شاردة”، بقصد الحطّ من القدرة الجماعيّة من خلال “التهديم المعنويّ”، الذي يغرس الشكّ ويقوّض الثقة بالنفس داخل الجسم المجتمعيّ. إنّ عرض هذا الفيلم في سياقٍ تشهد فيه المملكة العربيّة السعوديّة تحوّلًا تاريخيًّا فريدًا يثير تساؤلًا جوهريًّا حول توقيته. يبدو أنّ الفيلم يوجّه رسالةً مبطّنةً إلى المجتمع تقول: “أنتم لستم على مستوى طموحاتكم ومشاريعكم”، بسبب مفسدةٍ في بعضكم. هذا الخطاب، كآلية تغريب، يضعف التماسك الاجتماعيّ ويؤدّي إلى “تآكل رأس المال الاجتماعيّ” الذي هو العزيمة في الإنسانيّة من جهة، وإضعاف “القدرة الجماعيّة على الفعل” من جهةٍ أخرى.
الهجرة والبحث عن حياةٍ جديدةٍ هي موضوعاتٌ شائعةٌ في الفنّ الإبداعيّ. ومع ذلك، عندما تُختزل أحيانًا هذه الموضوعات إلى تنميطٍ مبسّطٍ وتجسيدٍ مسيء، وتُستخدم لتصوير مجموعةٍ عرقيّةٍ أو دينيّةٍ على أنّها جشعة، أو قاسيةٌ أو همجيّة، فإنّ ذلك يُفقد العمل الفنيّ جوهره ويصبح مجرّد أداةٍ للإثارة. وهذا ما يتجلّى في فيلم حياة الماعز، الذي يقدّم الشخصيّات ذات الأصل البدويّ بطريقةٍ ليست ممّا هي عليه من كرمٍ وشهامةٍ ومروءةٍ. هذه الاختزالات حوّلت هذه الشخصيّات إلى قوالب نمطيّةٍ أفرغتها من إنسانيّتها، لكن بالمقابل كانت النتيجة أنّها أضعفت عمق الرسالة الفنيّة للفيلم الذي تحوّل من فرصةٍ للتفكير والتطوّر إلى مجرّد عرضٍ استفزازيّ.
تعدّ ظاهرة وصم الشخصيّات العربيّة، سلوكًا سبق لنا أن شاهدناه في السينما الهوليوديّة. وفيلم حياة الماعز ينتمي إلى هذه الفئة من الأفلام، إضافةً إلى كونه من الأفلام التجاريّة، التي يتجاوز الصخب الإعلاميّ حولها قيمتها الفنيّة الحقيقيّة. من خلال التركيز على الإثارة والتعميمات النمطيّة، يتجاهل الفيلم ثراء الروايات الأصيلة والمعقّدة. هذه المقاربة لا تعزّز فقط الصور الضارّة، بل تشتّت أيضًا الانتباه عن القضايا الحقيقيّة التي تواجه الشخصيّات. في النهاية، تُغمر القيمة الفنيّة والسرديّة للفيلم في الضجيج الإعلاميّ، ممّا يجعل الترفيه السطحيّ يتفوّق على التأمّل العميق والاحترام الصادق للواقع الإنسانيّ.
في الختام، تكشف رواية حارس أشجار المقبرة لعاطف صالح وفيلم حياة الماعز لبليسي إيبي توماس، رغم تناولهما موضوع الهجرة، عن تباينٍ عميقٍ من حيث الغائيّة الفنيّة وصدق النيّة. فبينما يستند الإثنان إلى التجربة الإنسانيّة للهجرة، يظهر التباين بشكلٍ صارخٍ حين يغوص صالح في أعماق الوجود، مستكشفًا “الكائن لذاته”، بينما يختزل توماس الهجرة إلى أنماطٍ تبسيطيّةٍ تكشف عن رؤيةٍ سطحيّةٍ لـ”الكائن في العالم”. في حين يرتقي صالح بالسعي وراء المعنى من خلال تساؤلاتٍ أدبيّةٍ رفيعةٍ قدّمها بطريقةٍ جماليّةٍ أنيقةٍ رشيقة، تفشل محاولة توماس، رغم عظمة الظاهر، بسبب النوايا المبيّتة، في تجاوز البُعد الجماليّ للوصول إلى عمقٍ قِيَميٍّ حقيقيّ. فنجاح العمل لا يكمن في إتقانه الفنيّ فقط، بل في قدرته على تجسيد البُعد الإنسانيّ والأدبيّ الذي يستفهم عن الحالة الإنسانيّة وعلاقتها بالوجود. عليه، نجح صالح ولم يتوفّق توماس.
التجربة الإبداعيّة هي ملاذٌ للدهشة الجماليّة والتفكير الإنسانيّ المتواصل، المتحرّرة من الأحكام النهائيّة. فكلّ عملٍ فنيٍّ ليس مجرّد شيءٍ ماديٍّ وحسب، بل هو سردٌ يتجاوز حدود الزمان والمكان، وهو جزءٌ من الوجود البشريّ الذي لا يخضع لمنظور الحكم الأخلاقيّ. وهكذا، تجسّد رواية حارس أشجار المقبرة لعاطف صالح هذه الرحلة الوجوديّة في البحث عن المعنى والإنسانيّة معًا. ومن هذا المنطلق، تستحقّ هذه الرواية أن تتحوّل إلى فيلم، لأنّها تتجاوز مجرّد كونها وسيلةً للثقافة أو الترفيه، لتصبح دعوةً إلى التأمّل العميق في الحالة الإنسانيّة والتناقضات التي تشكّل وجودنا.
[1] الأب الدكتور سميح رعد، لبنانيّ مقيم في فرنسا. أكاديميّ، مؤلف ومترجم.