خمارة القط الاسود
د.ك3.50
يتنقل القط الأسود من مائدة إلى مائدة، وراء لباب الخبز وفتات الطعمية والسمك، يتلكاً عند الأقدام ويتسمح بالسيقان بدلات من بطرته النعمة، وصاحبه الرومى يعتمد الطاولة بمرفقيه رانيا للاشئ بنظرة ميتة، أما الجرسون العجوز فيدور بالنبيذ أو يملأ الأكواب الصغيرة المضلعة من صنابير البراميل. وهى أرحم خمارة بذوى الدخول الثابتة. وتتبادل الملح والنوادر، وتتوادد النفوس ببث الشكايات، ويترنم صاحب الصوت السالك بأغنية، فيطفح المكان المدفون الرطب بالسعادة. لا باس من أن ننسى ساعة من الزمان كثرة العيال وقلة المال. وأن ننسى الحر والذباب. وننسى أنه يوجد عالم خارج القضبان. وأن ننعم بملاطفة القط الأسود. فى ساعات اللقاء تصفو نفوسهم، تفيض بالحب لكل شئ، يتحررون من التعصب والخوف، يتطهرون من اشباح المرض والكبر والموت، يتصورون فى صورة منشودة، يسبقون الزمن بقرون كاملة وكانوا يرددون أغنية جماعية عندما ظهر فى الباب رجل غريب. نظر الرجل الغريب فى أرجاء المكان فلم يجد مائدة خالية، أختفى عن الأنظار فى الممشى حتى ظنوا أنه ذهب إلى الأبد، ولكن رجع حاملا كرسيا من القش المجدول- كرسى الخواجا الرومى نفسه- ثم وضعه لصق الباب الضيق وجلس. جاء متجهما وعاد متجهما ثم جلس متجهما. لم ينظر نحو أحد، تجلت فى عينيه نظرة حادة صارمة ولكنها غائبه، لائذة بعالم بعيد مجهول، لا ترى أحدا ممن يملئون المكان الصغير. منظره فى جملته قام وقوى ومخيف كأنه مصارع أو ملاكم أو رافع أثقال. وملابسه متوفقه تماما مع قتامته، ومؤكدة لها بالبلوفر الأسود والبنطلون الرمادى الغامق والحذاء المطاط البنى. لم يشرق فى ذاك البناء المظلم إلا صلعه مربعة توجت رأسا كبيراً صلبا. أطلق حضوره غير المنتظر شحنة كهربائية نفذت إلى أعناق الجالسين. سكت الغناء، انقبضت الأسارير، خمد الضحك، ترددت الأبصار بين التحديق فيه وبين استراق النظر إليه، ولكن ذلك لم يدم طويلا. أفاقوا من صدمة المفاجأة وهول المنظر. أبوا أن يسمحوا للغريب بإفساد سهرتهم. وتدعوا بإشارات فيما بينهم للإعراض عنه واستئناف لهوهم. عادوا من جديد إلى السمر والمزاج والشراب. ولكنه فى الحقيقة لم يغب عن وعيهم. لم ينجحوا فى تجاهلة تمام، ظل يثقل على أرواحهم كالضرس الملتهب.
اسم المؤلف : نجيب محفوظ
اسم المترجم :
دار النشر : دار الشروق
متوفر في المخزون
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.