سبق للفيلسوف اللبناني بولس الخوري -عاش نسيا ومات منسيا – أن وصف الدين بالمجال المميز للإسقاط الذي تضطلع به الذاتوية. ذلك أن رغبةُ الذاتِ المحبَطَةِ في تجاوزِ نفسها، وتجاوزِ العالَمِ المحبِطِ، وكذا شرط الخيبةِ وعدمِ الرضا إنما تكمنُ في عمق أعماقها. شرطٌ وعالم مُحْبِطانِ، جراء الفناء الحتمي (الموت). ألا تقول المقدمة الكبرى على ابتذالها المأساوي في القياس المنطقي التقليدي: كل إنسانٍ فانٍ؟ إن هاجس الموت، حسب بولس الخوري، من شأنه أن يجعلنا نتمنى لو أننا لم نُولَد. ومع ذلك نلفي الناس بصورة عامة أكثر ارتباطا بالحياة. فإذا كانت هذه الحياة تُحبطهم، فإنهم يتخيلون حياة أخرى، وعالما آخرَ، وشرطا آخر. ليس من شأن عالَم محبِطٍ إلا أن يساعد في إلقاء الضوء على عالَمٍ يتوافق تماما مع الانتظار.
وليس من شأن المدينة الدنيوية بما هي وادي الدموع، إلا أن تساعد على نحوٍ أفضل في الفوز بالعيش في مدينة الله، المدينة السماوية، فردوس الغبطة. ومن ثم، سيساعد الشرطَ غير الراضي وغير المرضي بدوره في إلقاء الضوء على وُجهة مثالية. وما هذه الوجهة سوى الحياة الأخرى الكائنة في ما وراء سرمدي، ومن أجل ذلك تكون في غير مُتنَاوَلِ أوجه القصور التي تُلازم زمن الحياة الحقيقية، بل من شأنها أن تكون شرطا جرى رفعُه إلى فوق مستوى الشرط الإنساني الحقيقي أيضا، ما سيجعل الإنسان مُهَيأ لضربٍ من الحياة الإلهية. وفي مركز هذه الإسقاطات تقبع رغبة الخلاص. لكن، لماذا تبحث الذات عن خلاصها؟ بكل بساطة لأنها تبحث عن إنقاذها من شرط الكينونة المحبَطة التي تعتريها، ونقصد الكينونة المأسورة في أفقِ عالَمٍ مُحْبِطٍ. غير أنها لا تستطيع أن تُنقِذ نفسَها بنفسها، لذا تلجأ إلى كائن كلي القدرة وكلي الخير. فعلى الرغم من أن قوام التجربة الدينية الواقع، أو الاستيهام، إلا أنها تظل محاولة للتخلص من شرط الكائن البشري المحبَط، وغير الراضي عن عالمه وعن نفسه (محدودية الكائن الإنساني). من الواضح أن العوائق التي تمنع الكائن البشري من تحقيق مشروعه المتمثل في بُلوغ مقام المطلق، إنما تتمثل في جماع الشروط المتعددة والمتنوعة التي تكبله، وتقيده، وتجعله وعرضة للهلاك؛ ونقصد:
*الوجود بمعية الآخرين، مع كل ما يترتب على ذلك من تنافس ينشأ بين المرشحين لبلوغ مقام المطلق.
*الزمانية التي تجعل الكائن البشري كائنا مطبوعا على نحو أساسي بالتاريخية، ومن ثم، بالنسبية.
*واقعة الموت التي لا سبيل للتملص منها: “إن الأفراد فانون ومعرضون للموت لا محالة، شأنهم شأن الشعوب وثقافاتها، التي لا يخفى عليها، أنها شعوب فانية ومعرضة للموت لا محالة، حتى أثناء سعيها إلى نسيان هذا الأمر. أما بالنسبة للبشرية قاطبة، فمن الواضح تماما أنها تتكون من أموات أكثر مما تتكون من أحياء، أو بالأحرى تتكون من كائنات ممكنة أكثر من تكونها من كائنات آنية. غير أن جعل البشرية سبيلا ممكنا أكثر مما يُتيحه الواقع الفعلي، يعني عرقلة طريقها إلى بلوغ المطلق (المصدر نفسه).
هكذا، يُجابه الكائن البشري في صورته الفردية عدة عوائق تحول دُون بلوغه مقام المطلق. ومرد ذلك إلى كونه كائنا خاضعا لشروط متعددة ومتنوعة: فيزيائية، بيولوجية، نفسية. ومن ثم يصعب على الفرد البشري، بما هو جسد، أن يتملص من مجموع الحتميات الميكانيكية المحيطة به، شأن حتمية المرض.
يقدم كتاب الباحث والناقد البحريني نادر كاظم: “ساعات ديكارت رديئة الصنع، لماذا نمرض؟” (صوفيا، الكويت، 2024)، فهما عميقا لدور المرض في تشكيل الحياة الفردية والجماعية عبر الزمن، استنادا إلى مجالات معرفية مختلفة: كالميثولوجيا الإغريقية والطب والفلسفة والأدب والديمغرافيا واللاهوت والسينما، وهي مجالات ساهمت وتساهم بصورة بارزة في تشكيل فهمنا لظاهرة المرض، إذ نجده يتنقل بين أفلاطون، وأرسطو، وسينيكا، وماركوس أوريليوس، وشيشرون ، ويحيى ابن عدي، وأبو حيان التوحيدي، والفارابي، وجالينوس، وابن سينا، وابن مسكويه، والرازي، والغزالي، مونتاني، وديكارت، ولايبنيز، وجون جاك روسو وألتوسير، وسارتر، وإدوارد سعيد، وجوزيه ساراماغو، وفانون، ومالتوس، وبالي، إلخ.
يندرج كتاب “ساعات ديكارت رديئة الصنع، لماذا نمرض؟” ضمن ورش تاريخ التمثلات؛ لاسيما تلك التي تتصل بالجسد، ويطرح عدة أسئلة من قبيل: كيف يتمثل الفلاسفة والمفكرون واقعة المرض؟ كيف يتصورونها؟ كيف يشعرون بها؟ كيف يوظفونها في كتاباتهم؟ وهو ورش عظيم انبجس على إثر المنعطف الإبيستمولوجي، الذي شهدته مدرسة الحوليات التي نشأت في فترة الثلاثينيات مع مشيل فير ومارك بلوك (تاريخ الذهنيات). وقد شهد هذا الورش تطورا ملحوظا في فترة الستينيات مع جاك لوغوف (التاريخ الجديد) وغيره من المؤرخين والفلاسفة، ويعرف في السنوات الأخيرة انتعاشا كبيرا على يد مجموعة من المؤرخين والأنثروبولوجيين أمثال: جورج فيغاريلو، ودفيد لوبروتون، إلخ.
مونتاني وشيطنة الأطباء
يصف مونتاني ادعاءات الأطباء بـ”الفارغة”، وينعت العلم الذي يتبجحون به بـ”المشؤوم”، ذلك أنهم يحملون أنفسهم على التدخل في أشياء تتجاوزهم، وهم إذ يعملون على إثارة حفيظة الأجساد ومفاقمة غضبها والحيلولة دون جعلها تعالج ذاتها بذاتها، إنما يُساهمون في تحكم الداء وفتح أبواب الموت، وتضمر محاولاتهم نزوعا يرمي إلى توقيف دورة المرض الطبيعية، إذ يتناسون أن المرض يُولد ولادة طبيعية، وينمو نموا طبيعيا، إلى أن يبلغ ذروته، ثم يموت موتا طبيعيا بعد أن يصل إلى مرحلة الوهن والضعف، يقول مونتاني: “من يحاول تقليص الأمراض بالقوة في عز تناميها، لا يقوم سوى بتمديد أجلها والإكثار مِنها وممارسة العنف عليها عوض تلطيفها وتهدئتها”. (أورده نادر كاظم، ساعات ديكارت رديئة الصنع، لماذا نمرض؟).
لم يكتف مونتاني بشيطنة الأطباء وإبداء عدائه تجاه ادعاءاتهم سيرا على نهج أسلافه، بل عمل على عقلنة هذا العداء استنادا إلى عدة تفسيرات من بينها:
*شهد التاريخ عدة شُعوب حافظت على حياتها من دون توسل أساليب الطب والأطباء، ولم تكد تعرف أي ضربٍ من ضُروب المرض، ما يعني أن الناس تعيش حياة هنية في ظل غياب الطب والأطباء.
لا يُوجد الدواء من أجل القضاء على المرض، بل من أجل مفاقمته، فليس “الدواء مُنج يمكن الاعتماد عليه، بل هو بطبيعته عدو صحتنا، ولا يلج بواطننا إلا بواسطة قلقنا”. (أورده نادر كاظم). إن الطب، حسب مونتاني، “فن غير الموثوق به”، ومن ثم، يلزمنا أن نترك “للطبيعة ما هو من عملها”، و”أن نترك الطبيعة تهتم بشؤونها شيئا ما، فهي تعرف ذلك أفضل منا”، و”أن نترك الأمراض تمر”، و”أن نترك الأمور تسير على حالها، فالنظام الذي يسهر على البراغيث والجرذان هو الذي يسهر على بني أدم”. (أورده نادر كاظم). إذ لا نملك إلا أن نتقبل المرض، فهو وسيلتنا الوحيدة من أجل تقبل الموت والاستئناس به.
حيرة ديكارت
يُولي ديكارت على خلاف مونتاني مكانة رفيعة للطب، إذ يجدر بالإنسان أن يتكل على الأطباء من أجل صون نعمة الحياة، على أن وضع ديكارت يختلف عن وضع مونتاني، إذ لم يتعرض ديكارت على خلاف مونتاني لأي مرض خطير يُذكره بالموت. فضلا عن كون ديكارت لا يكتفي بالتفسير الطبيعي للمرض من خلال ربطه بالدورة الطبيعية كما هو الشأن لدى مونتاني، بل إنه يعمل على دمج التفسير الطبيعي بالتفسير الميكانيكي، إذ يصف الجسد السليم بالجسد المصمم بصورة متقنة مثله كمثل ساعة جيدة الصنع، ويصف الجسد العليل بالجسد المصمم بصورة غير متقنة، مثله كمثل ساعة رديئة الصنع: “العالم آلة هائلة صنعها (مهندس الكون الأعظم)، تماما كما صنع الجسد ككون صغير مصمم مثل آلة صغيرة، صحيح أن هذه الآلة الطبيعية تتفوق على كل الآلات التي صنعها البشر، فهي (أحسن تنظيما بقدر يجل عن الْمُقارنة، ولها في ذاتها من الحركات ما يفوق روعة كل الآلات التي يمكن أن يخترعها البشر”. إلا أنها تعمل، مثل آلات البشر، بانتظام ودقة تماما مثل ساعات جيدة الصنع”. (أورده نادر كاظم، المرجع نفسه).
إن الطريقة التي صُنع بها الجسد الإنساني: عظام، أعصاب، عضلات، شرايين، دم، جلد، إلخ هي ما يجعله يعمل مثل الساعة، ساعة جيدة الصنع عندما يكون الجسد سليما، ورديئة الصنع عندما يكون عليلا. وهو الأمر الذي وضع ديكارت أمام مآزق لاهوتي حقيقي: ما الذي يحمل هذا الصانع على صنع ساعات رديئة هو الذي يمتلك كل القدرة التي تخول له صنع ساعات جيدة الصنع؟ لم يزد هذا المآزق سوى مفاقمة حيرة ديكارت الدينية، إلى درجة أنه وصف إمكانية صنع الصانع لساعات رديئة الصنع بالعبث، إذ تصير طبيعة عمل الساعة متوقفة على الاستعمال، الذي خصه بها الصانع كأن “تتحول عن طبيعتها إذا لم يتعين الوقت جيدا”.. ومن ثم، سيكون المرض نتيجة عدم إتقان الصانع لصنعته. من هنا، يخلص ديكارت، حسب نادر كاظم، “إلى وجود مماثلة شبه كاملة بين جسد الإنسان والساعة في كل الحالات، في الصحة كما في المرض، في الحياة كما في الموت. إن جسد إنسان حي يختلف كما يقول، “عن جسد إنسان ميت مثلما تختلف ساعة أو آلة…إلخ”. (المرجع نفسه). لكن، ما هو المصدر التي ينبجس منه المرض؟ هل يتعلق الأمر بعطب مفاجئ في عمل الأعضاء؟ أم بخطأ جسيم يطال جوهر التصميم الأصلي؟
لا يملك ديكارت أمام السؤال السابق، إلا أن يلفي نفسه وجها لوجه أمام الحيرة والحرج مرة أخرى، لاسيما أنه سبق أن أبرز في مُصنف: خطاب في المنهج (1637)، أن الجسد آلة تعمل كما تعمل الساعة؛ ويقصد أن الجسد قائم على تنظيم دقيق أوتوماتيكي. الأمر الذي كرر إبرازه في مصنف: التأملات في الفلسفة الأولى، حين أكبّ على محاولة إثبات وجود الله وخلود النفس بتوسل الفلسفة لا اللاهوت، ومأتى هذه الحيرة من المرض الذي ينبجس داخل الجسد، بما هو خطأ أو عيب، بعوق عمل الجسد الطبيعي (الآلة)، كالعطب الذي يحدث في الساعات رديئة الصنع نتيجة هفوة ارتكبها مُصَممُها (الصانع). من هنا، يحق لنا أن نطرح مع ديكارت السؤال التالي: كيف يمكن التوفيق بين كمال خلق الله، والأمراض بوصفها أخطاء في طبيعة الأجساد؟ (المرجع نفسه). يجيب نادر كاظم عن هذا السؤال بالقول: “كان ديكارت مذبذبا بين فكرتين متعارضتين: فكرة أولى تقول إن الجسد آلة مثالية التصميم، وأن جهازها العصبي مصممٌ لحفظها ووقايتها من الضرر والزلل، وبلغ ديكارت من ثقته في نظام حماية الجسد (جهاز المناعة) إلى درجة أنه طالب الإنسان بألا يخشى (مُنذ الآن وقوع الزلل في الأشياء التي تتمثل في أغلب الأحيان عن طريق الحواس). وهناك على الطرف الآخر، فكرة ثانية تنازع الأولى وتقول، إن الجسد قد يكون آلة تعمل كما تعمل الساعة، لكن وجود ساعات رديئة الصنع ولا تعمل بصورة جيدة يزعزع صلاحية الفكرة الأولى عن آلة الجسد المثالية، وإلا بماذا تمرض الأجساد ما دامت تمتلك هذَا النوع من نظام الحماية الموثوق به إلى هذه الدرجة؟ كان يمكن لضرورة الموت أن تكون تسوية مُريحة بين هاتين الفكرتين، وكان على ديكارت أن يسأل: إذا امتلك جسد الإنسان جهاز مناعة ضد كل أنواع الأخطار والأمراض التي تهدد حياته، فكيف سيتمكن الموت من التسلل إليه؟ كيف سيموت الإنسان إذا كان كامل المناعة والتحصين ضد كل الأمراض القاتلة؟” (المرجع نفسه)
من أجل حمل الذات على الاعتقاد بمحدودبة الكائن البشري، يجدر بنا الاعتراف بقابلية سقوط الإنسان في شرك المرض، وبأن هذا الأخير واقعة طبيعية شأنه شأن الموت والحياة، إنه “مسألة طبيعية جدا في أجساد صنعت صحيحة سليمة، كما الساعات جيدة الصنع، لكنها تمرض أيضا كما الساعات رديئة الصنع، وتموت كساعات معطوبة ومتوقفة عن العمل” (المرجع نفسه).
خاتمة
لا أحد معصوم من المرض، أو محصن ضده، فكل الناس يسقطون في شراكه: أطفالا، وشبابا، كهولا، وشيوخا، على أن المرض تجربة إنسانية يخبرها الجميع بدرجات مُختلفة ومتفاوتة، من حيث الشدة والتكرار، كيف ستكون حياة الإنسان إذا غاب عنه المرض؟ إذا رفع سيف ديموقليس عن رأسه؟ إذا لم يمرض قط بعد اليوم التالي؟ سينقطع الموت لا محالة، وستصير الحياة مملة بلا طعم، يقول نادر كاظم: “المماثلة بين انقطاع المرض وانقطاع الموت ليست عبثية؛ لأن المرض نذير الموت، وأحد أدوات الموت الأساسية، وبانقطاع المرض سينقطع مصدر الإمداد الأساس لآلة الموت الهائلة، وسيتكرر الاضطراب الذي تدور حوله رواية (انقطاع الموت)، ستصاب أجهزة الدولة باضطراب كبير، وستتعطل وكالات دفن الموتى، وستتعرض للخطر شركات التأمين وصناديق التقاعد، وستواجه بيوت المسنين مشكلة لا حل لها مع أعداد لا حصر لها من كبار السن، الذين لا يموتون وستتجرع الكنائس المر مع أسئلة دينية وجودية مصيرية؟ لأن انقطاع المرض يعني انقطاع الموت”. (المرجع نفسه). لا يملك المرض الخطير إلا أن يحمل من يصاب به على مجابهة الخوف من الأشياء التي تنفلت من سلطته. صحيح أنه أسوأ ما يمكن أن يصاب به الإنسان هو مرض قاتل، غير أن هذا المرض يحرر صاحبه من الخوف: فما الذي عساه أن يحدث أعظم مما حدث؟