في كتابه الجديد “ساعات ديكارت رديئة الصنع”، يتناول الدكتور نادر كاظم أسئلة من قبيل: لماذا نمرض، وماذا يحدث لو لم نمرض؟ وكيف تعامل الفلاسفة والمفكرون مع أمراضهم؟، وهو كتاب شيّق كونه يتناول موضوعاً وثيق الصلة بحياة الناس اليومية، ليرى أن المرض يُحفز المرء على التأمل ويُوسع نظرته للحياة ويحرره من اشياء ومخاوف كان سجيناً لها، كما أنه يعيد رسم شخصية الإنسان وهويته مستشهداً بتجارب عدد من الفلاسفة وكيف واجهوا المرض أمثال سوزان سونتاغ وسارتر وغيرهم، ولعل الأهم في هذه التجربة هو أن المرض رغم آلامه ومساوئه يصالح الإنسان مع الموت، وهي الفكرة المرعبة التي نتحاشى التفكير فيها ما دمنا أصحّاء.
ليس الفلاسفة وحدهم من يهزّهم المرض ويُغيّر قناعاتهم ويخلق المزيد من التحديات في حياتهم بل أن كثيراً من الناس العاديين يجنحون إلى التفكير الفلسفي تلقائياً حين يمرضون أو يداهمهم مرض عضال وصعب ومعقد وعصيّ على العلاج ومفتوح على كل الاحتمالات غير اليقينية، وكثير من مرضى الأمراض المستعصية يطرحون السؤال البديهي: لماذا أنا؟ وكيف ستمضي حياتي مع هذا المرض؟، وهل سأظلّ عاشقاً للحياة أم أنّ المرض وتوابعه وعلاجاته سوف تعصف بي وتحيلني إلى إنسانٍ آخر؟
عن المصالحات أريد أن اتحدث في هذا المقال، فالمرض لا يُصالحنا مع الموت فحسب بل مع أشياء عديدة في حياتنا، ألا ترى إلى نفسك وقد لامست أبعاداً إنسانية وأحاسيس ومشاعر لم تختبرها قبل المرض تجاه نفسك وتجاه الآخرين؟. المرض تجربة شديدة الخصوصية وشديدة التأثير علينا، وللمتأمل فهو يصالحنا أولاً مع ذواتنا ومع أنفسنا ومع إنسانيتنا، ألا نصبح أكثر رحمة وأقلّ قسوة على الناس حين نمرض؟
كثيرون يجنحون إلى المصالحة والتسامح مع أعدائهم، ومع كل ما يكرهون لأن الموت يصبح هو العدو الأكبر والأوحد. وكثير من المرضى في مجتمعاتنا المتدينة يعمقون أواصر علاقاتهم بإيمانهم أو يتصالحون مع إيمانهم القديم ويعودون إلى الطريق الذي سلكوه ثم حادوا عنه. وفي مجتمعاتنا المتدينة يُعدّ المرض أقلّ وطأة، إذ يميل الناس إلى التوكّل والتسليم والقبول بما قدّره الله عليهم، يخففون من قسوة المرض على أنفسهم وعلى احبائهم وعلى مرضاهم بالقول “أجر وعافية”، وإنّه امتحان من الخالق للمخلوق الضعيف كي يختبر صبره، “وإذا أحبّ الله المرء ابتلاه” كما في الحديث النبوي، باعتبار الألم رحمة ومقدّمة للتكفير عن سيئاته، كي لا يكفر الإنسان بربه.
والمرض يصالح الإنسان مع التغيير الذي لا مناص منه، فالمريض ومن أجل تفادي عودة المرض أوالألم المزمن والتدهور الصحي المستمر يُخاطر ويُغامر ويفعل أي شي ويضحي برغباته وشهواته ويُغيّر مجمل نظامه الصحي من عادات وأنماط غذائية وغيرها للوصول إلى مصالحة، وإن كانت وقتيّة، مع جسده ومع أمراضه وألآمه، وفي هذا التغيير ينتقل المرء إلى طورٍ جديد وغير مألوف في حياته.
والواقع إننا واهمون إذا راهنا على أجسادنا وعلى قوّتنا لأنه سيأتي يوم وتخذلنا وتطيح بنا فليس مقدراً لهذه الأجساد إلا أن تشيخ وتمرض وتصل إلى النهاية في الآوان أو قبل الاوان. “التقدّم في العمر” هو اسوأ جملة تسمعها من طبيبك أو مستشارك الرقمي الذي تعود إليه في كل صغيرة وكبيرة، أما الجملة الأقلّ وطأة فهي المتعلقة بجيناتك العائلية، حين يداهمك المرض العائلي الشهير الذي قضى على أسلافك قبلاً، لكنّه قد يصيبك ربما في عمر أبكر وأصغر لأنه وببساطة مكتوب ومقدّر عليك ومنقوش في تاريخ عائلتك الصحي، بيد أن الغرابة الحقيقية حين يصيب المرض أولئك الأصحاء الملتزمين بالصحة والغذاء والرياضة، والذين اعتقدوا أن ميكانيكية أجسادهم تسير كالساعة المتقنة الصنع لا كساعة الفيلسوف ديكارت التي أشار إليها الدكتور نادر بشكلٍ مجازي، ذلك أن ديكارت وصف المرض بأنه عطل ميكانيكي في آلية الجسم ويمكن إصلاحه.
هل ثمة نقاط مضيئة وإيجابية في المرض رغم استنزاف المال والصبر والمزاج، ورغم تغيّر “سفرة” الطعام وتحول تلك الوجبة الشهية إلى واجب ثقيل وطعم “ماسخ” بلا نكهة ولا ذوق؟
أغلب المرضى بأمراض مختلفة محرومون وبوصايا طبية وصحية صارمة، من أغلب طيّبات الطعام التي كانوا يُحبّونها ويتلذذون بتناولها. نعم المرض يعيد المرء إلى البساطة المفرطة في كل شيء، وإلى معدة كمعدة الطفل مصممة على هضم القليل والبسيط وغير المعقد. تجلس على مائدة الإفطار الصباحية الخالية من المخبوزات والبيض والجبن والشاي والقهوة والحليب والسكر، لا شيء مما تعرفه وتحبه واعتدت عليه يُحفزك على الاستيقاظ من النوم. تعاود النوم، أو تقرر الصيام، أو تكتفي بوجبة طعام واحدة وتنطلق في رحلة البحث عن البدائل الغذائية والدوائية، ليس المرض شراً مطلقاً كما قد تتصورون. إنّه يصالحك أيضاً مع التغيير ويأخذك بعيداً عن التكرار الممل، ويجبرك على التفكير خارج الصندوق، ويصالحك مع متطلبات الجسد الجديد ويحضّك على متابعة كل ما تطرحه التكنولوجيا والأبحاث الطبية والصحية المتطورة في علاجات المستقبل وكلّ ما من شأنه أن يُحسن جودة الحياة ويطيل أمد العمر.
