ليلى العثمان
– ستبقى نجمتنا الشاعرة والكاتبة رغم ابتعادها عن الأضواء حاضرة في سمائنا وقد تتوارى في ليالي الشتاء حين تتلبّد السماء بالغيوم لكنها تتحدّى الغيم وتظل تسطع علينا
– قصص تحمل جذور الماضي الجميل وحكاياته الحلوة والمرّة الذي عاشه الأجداد بكل تقاليده وعاداته التي يجهلها هذا الجيل الذي تربى على عادات مختلفة
لا أحد منا يستطيع أن يقطف نجمة من السماء، لكننا نستطيع أن نقطف من تلك النجمة بعض اللمعان والألق. ونجمه ادريس اسم على مسمّى، هي النجمة المضيئة في سماء الأدب والثقافة في الكويت، والنجمة قد تتوارى في ليالي الشتاء حين تتلبّد السماء بالغيوم، لكن نجمتنا تتحدّى الغيم وتظل تسطع علينا بما تهبنا من لآلئها، وتغمرنا بدفء أشعارها وقصصها ورواياتها، هي تكتب ونحن نقرأ ونستشعر ما تعانيه، وهي تغزل كلماتها وعباراتها بالغرز المنمنمة، وكأنها كانت تمضي وقت الكتابة، وهي منكبة على قماشة كنفاه لتملأها بالألوان المتعددة.
سيرة حافلة
نجمة إدريس لا تغيب، وتفاجئنا بين وقت وآخر بإصدار جديد يكمّل لنا ما قد صاغته من أعمال أدبية كثيرة ينتعش من يقرأها، فهي تملك لغة فريدة ترتقي فيها إلى مستوى لا يضاهيها فيه أحد.
اليوم تطل علينا بمجموعتها الجديدة «كنفاه». وإذا استعرضنا ما أنتجته قبلها، فسنلاحظ أنها متعددة الإنتاج، ففي الشعر أصدرت «صباح يشرب البرتقال»، و«مجرّة الماء»، و«الإنسان الصغير»، و«طقوس الاغتسال والولادة». وفي القصة القصيرة «كنفاه»، وفي الرواية «سيرة الغائب» و«حدائقهن المعلقة»، وهي الرواية التي فازت بجائزة الشيخ زايد.
وفي الدراسات، قدمت «مأزق المرأة الشاعرة»، وهي قراءة في الواقع الثقافي، ورواية «الجلطة التي أنارت بصيرتي»، ولا أخفيكم كم أحببت هذا الكتاب واستفدت منه في التعامل مع ابني، الذي تعرّض لجلطة ما تزال آثارها باقية عليه. و«سيرة شعرية وشواهد»، وكتاب عن الشاعر د. خليفة الوقيان «رحلة الهم والوهم»، و«الأجنحة والشمس»، وهي دراسة تحليلية عن القصة القصيرة في الكويت. وفي النصوص أصدرت «على قيد الكتابة» و«تتكسّر لغتي أنمو».
حصلت نجمة على جائزة الدولة التشجيعية، ونتمنى أن تحصل على الجائزة التقديرية، فهي تستحقها. كما حصلت على جائزة المرأة العربية في مجال الأدب.
نجمة حصلت على ليسانس في اللغة العربية وآدابها من جامعة الكويت، وماجستير ودكتوراه في الأدب العربي الحديث من جامعة ليستر في بريطانيا. كانت تعمل في جامعة الكويت، وقد حوربت من بعض بنات جنسها، فلم تحتمل تلك الحروب التافهة، نتيجة الحسد والغيرة فاستقالت، وكان في هذا خسارة للجامعة.
مجموعة كنفاه
أهدت هذه المجموعة إلى «قُرّاء لا أعرفهم».
تحتوي المجموعة على سبعة عشر قصة، تتحدث فيها الكاتبة عن واقع معاش تفتقد فيه البيوت المودة والتراحم بين أفرادها «البعض لا يرتاح إلى البعض والأهل الذين اختارهم القدر ليكونوا حولنا، لكنهم لا يستطيعون ملء الفراغ، لتبدو الحياة أكثر زهواً وأقل رتابة».
في زيارة بناتي لي يوم السبت، وهو يوم اجتماع عائلي، تجلس كل واحدة في ركنها المفضّل، هذه تشتغل بالكروشيه تصنع لحافاتٍ صوفية جميلة لتهديها لأطفال صاحباتها وقريباتها المواليد. وهذه تطرّز مخدّة بالغرزة الفلسطينية الدقيقة باللون البرتقالي.
في هذه الأجواء المنتعشة، تجعلني أعذر الأم في قصة الكنفاه، التي تهتم بخياطتها مشغولة عن كل ما حولها، حتى انتقلت إلى يد الأبنة، فأصبحت الملجأ لها من الهم واجترار مرارات يومها.
قصة باباه
العامل الذي استقدمه السيد من بلاده قبل سبع سنوات، ليقوم بكل الأعمال في المزرعة، وكانت هي سلوته الوحيدة وملجأه من قسوة العم وتعنيفه، وتذكيره دائماً بأنه لا يحصل على كسرة الخبز في بلده، بينما هنا يمتلئ كرشه من خيْرهِ وفضله. وذات يوم فكّر العامل أن يعود إلى بلده، لكن السيد جرّه من تلابيبه إلى قفص الكلب وركله إلى داخله، مثل بقشة بالية، وخرج من المزرعة. كثيرون من العمال يعانون من نزوات الأسياد، محرومون من إجازة تشغف قلوبهم لها لرؤية أهلهم، والفوز بعطلة تعيد لروحهم المكلومة بعض الهناء، لكن حين يحدث الطلب لإجازة يكون هذا فاجعة للسيد، وتكون الإجازة الحلم للعامل في قفص الكلب. وصف العامل باباه وحياته الفارغة إلا من السكر والأكل الكثير، ثم ترجيع ما في معدته من حوامض بائتة، ويجد القارئ نفسه متعاطفاً مع العامل الذي دفعته ظروفه القاسية ليحتمل هذا الوضع.
قصة طائر اللقلق
كانت بينها وبين أمها هوة من فراغ، فهي لا تبثُّ حناناً، ولا تتقن الكلمات الرؤوم، وتظل تغبط صاحبتها التي لديها والديْن يرفلان بالألق. أما البيت فأولى علاماته الصمت، وكأنه هواء فاسد معلق في فراغ، فكانت المدرسة حديقتها التي تواصل فيها مواهبها، وظلت تحلم بطائر لقلق يحملها نحو بيت آخر تشعُ نوافذه بالضوء.
قصة بطن الحوت
أدركتْ منذ أن تخطّت الستين أن مساحيق الزينة تظهرها أكبر سناً، لكنها في موعد معرضها التشكيلي الثلاثين أكملتْ زينتها بالمكياج الذي تكرهه. لقد بات اسمها أيقونة في الفن، لكن روحها مزعزعة، فحين أنجبت ابنها يونس بعد طول أمل وانتظار وصراعات زوجية مريرة، فجعت بيونس يغرق ويدخل بطن الحوت، وهي تقف على الشاطئ منتحبة ترتجي الحوت أن يعيد لها وحيدها.
قصة تلك الليلة
قصة جميلة من الماضي تعود بنا إلى زمن تحدث فيه أفعال السحر.
قصة آنتي فدوى
أحبَّ لبنان منذ كان صبياً صغيراً، يتزحلق على المنحدرات، ويكتشف الأحراش مع رفاقه في الصيف، وكان يحب آنتي فدوى، التي تهدل كالحمامة، وتفوح منها رائحة الزعتر البرّي والميرامية، حين يزورها مع أمه تضمّه بذراعين بضّتين وبصوتٍ كنبعٍ مترقرق، تقول: يا روحي يا قلبي اشتقت لك.
كبرت آنتي فدوى، غاب صوتها الصادح، وصارت دائمة الشكوى من انقطاع الكهرباء، وارتفاع فواتير المازوت، وتظلّ تتذمر على الحكومة، وحارس البناية الذي حاول سرقتها. هذه القصة ذكرتني بشخصيات نسائية لبنانية عايشتها في بيتنا في بحمدون الضيعة.
قصة عوّاشة
عوّاشة ترقص في حفل زواج بدرية المعروفة في الحي أنها «خبلة»، وحقدت عليها، لأنها حصلت على هذا الزوج الجميل. بدأت تطارده في مكان عمله في مكتب البريد، وتترك له رقم هاتفها، لتبدأ استمالته إليها، لكنها ظلت تنفخ في رماد. مرت ثلاثة عقود، كانت خلالها ترفض العرسان، الذين تقدموا لها، فهي مصرّة على أن تخطف سالم من بدريّة. حين علمت أن سالم سيشارك في ندوة تأنقت وذهبت لتفاجأ به، وقد تحوّل إلى كهل ذي كرش وشارب أشيب ونظارتين سميكتين، وهنا انتهى حلمها. ذكرتني هذه القصة بقصة «عريس في حي البنات» في إحدى قصصي القصيرة، حيث كانت كل بنات الحي يحسدن العروس، التي سقطت في البئر، وخرجت منه بنصف عقل، ونالت هذا العريس الغني الوسيم.
جذور الماضي
لا تغفل نجمة جذور الماضي الجميل وحكاياته الحلوة والمرّة، الذي عاشه الأجداد بكل تقاليده وعاداته، التي يجهلها هذا الجيل، الذي تربى على عادات مختلفة. في تلك الجذور وحكاياتها تغوص نجمة في أعماق نفوس أبطاله الغريبة أحياناً، والمتعبة أحياناً أخرى. تحت هذا العنوان تقدم خمس قصص عن فرجان الماضي، فتثقب الحيطان لترينا زمناً قديماً ما زلنا نعشق ذكراه بكل تفاصيله ومسمياته. كانت الفرجان تغلي بالأطفال، وتعدد ألعابهم ومشاجراتهم. ويوم كان التعليم مقصوراً على الأولاد كانت «شيخة» تنتظر أخاها ليعود من المدرسة، لتتعلم منه حروف الأبجدية، تقرأها وتنسخها في شغف.
شخصيات مثل بائع الخام والعكاس (المصور) وراعي الغنم، وبيّاع الأدوات النسائية من أمشاط وملاقط ومقصات ومسحوق الحنة وغيرها، مثل شخصية أم شبيب، وأم سند، وكنتها صبيحة العراقية.
كانت البيوت متقاربة، وكل بيت يعرف ماذا يحدث في البيوت الأخرى، فيشاركون في الأفراح والعزاء وحفلات «النون». هذه الجذور تلامس وجدان القارئ، خاصة من عاش ذلك الماضي من نساء ورجال.
ستبقى نجمة الشاعرة والكاتبة رغم ابتعادها عن الأضواء، حاضرة في سمائنا، لأنها النجمة التي لا تنطفئ.
https://alqabas.com/article/5935052 :إقرأ المزيد