تقدّم لنا رواية «حارس أشجار المقبرة» لعاطف صالح، الصادرة عن دار «صوفيا» في الكويت، هذا العام 2024، قصّة إسحاق أيّوب، مهاجرٌ أسودٌ يبحث عن حياةٍ جديدةٍ في فرنسا، لكنّه يجد نفسه أسيرًا لمصيرٍ غير متوقّع وصعب التغيير. بعدما تمّ تعيينه للعمل كحارسٍ في مقبرةٍ باريسيّةٍ لمدّة ثلاثة أشهر، يجد نفسه مرغمًا على البقاء في هذا المكان لمدّة ثلاثين عامًا، حيث يلتقي الموت بالحياة ويتداخلان.
ثبات المصير
تسلّط هذه الحالة الضوء على لعبة المصير الإنسانيّ القاسي والطريقة التي يمكن أن تعطّل بها المشاريع الإنسانيّة بفعل قوى غير متوقّعة. تتحوّل المقبرة، التي تعدّ رمزًا لنهاية الإنسان الأرضيّة، إلى مكانٍ للتأمّل الوجوديّ العميق، حيث يمتدّ الزمن ويعاد تقييم ملامح الوجود وتحديده. إسحاق، المحبوس في هذا الفضاء الرمزيّ، يواجه ثنائيّة الحالة الإنسانيّة، حيث يتأرجح بين الرغبة في التجديد وثبات المصير.
سكّان الحيّ، المليئون بالشكوك والعداء، يرفضون تمامًا فكرة تعيين هذا الغريب لحراسة موتاهم. يغلقون الأبواب أمام أيّ شكلٍ من أشكال التواصل معه، وحتى مجرّد رؤيته خارج أسوار المقبرة يكفي لإثارة مشاعر الازدراء. يصبح إسحاق، رغم وجوده الماديّ، كأنّه طيف، منبوذا على هامش المجتمع. تعكس هذه الحالة تناقضًا عميقًا: الفرد الذي تتلاشى واقعيته المادّيّة بسبب رفض المجتمع له والاعتراف به. تجربة إسحاق تثير تساؤلات جوهريّةً حول طبيعة القبول والوهم المتعلّق بالظهور في عالمٍ يكون القبول الحقيقيّ والكرامة غالبًا مشروطين بمعايير وأحكامٍ مسبقةٍ تعسفيّة.
غربة وجوديّة
بمرور الوقت، تتغلغل الوحدة ويزداد الرفض في أعماق إسحاق أيّوب، محدثَين ألمًا مزمنًا وغربةً وجوديّةً قاسية. في عدّة مناسبات، يصل إلى حدّ الانهيار، الذي دفعه حتى اليأسِ ليمقت نفسه. ولكن في كلّ مرّة، تمنعه قوة الحياة عينها لعدم الانصياع لتلك الرغبة المدمّرة. صراعه الداخليّ والصامت يصبح شهادةً على قدرة الإنسان على الصمود في وجه التمييز والعزلة.
كان يعتقد إسحاق منذ زمنٍ طويلٍ أنّ الأفراد الذين يتصرّفون بوحشيّةٍ هم مجرّد «ذئابٍ خاطفة»، استثناءاتٌ ضمن المجتمع، وليسوا تجسيدًا لشرٍّ جماعيّ. كان يؤمن أنّ الإنسانيّة، رغم عيوبها، تحافظ على جوهرٍ نقيٍّ صالح. ومع مرور الوقت، اضُطر إلى إعادة النظر في هذه الرؤية المثاليّة. بدأ يدرك واقعًا أكثر سوداويّة: إنّها الوحشيّة التي تتسرّب بشكلٍ خفي، وهي لم تعد تقتصر على بعض الأفراد بل تبدو وكأنّها تتغلغل تدريجيًّا في نسيج المجتمع بأسره. هذه الحقيقة جعلته يتساءل عن طبيعة الشرّ ويعيد التفكير في إمكانيّة أن تكون هذه الوحشيّة، بعيدًا عن كونها استثناء، جزءًا من البنية الأساسيّة للطبيعة البشريّة.
العنف المتأصّل
على الرغم من وجود قوانين صارمةٍ تهدف إلى تنظيم العلاقات بين البشر وحمايتها، كان إسحاق يراقب بمرارةٍ كيف أنّ هذه القوانين فشلت في كبح العنف المتأصّل في الكائن البشريّ. تلك القوانين، التي كان يقدّرها في السابق، أصبحت تبدو الآن كأبنيةٍ هشّة، غير قادرةٍ على إخفاء الطبيعة الغاشمة المفترسة لبعض الأفراد. لم تعد الوحشيّة مجرّد شذوذٍ مؤقّت، بل أصبحت تبدو وكأنّها مبيّتةٌ وقابعةٌ تحت قناع الحضارة. هذا الوعي دفعه إلى تأمّلٍ أعمق في الفجوة بين ظاهر الحضارة والواقع المظلم للطبيعة البشريّة، متسائلًا عن فعاليّة الهياكل القانونيّة في مواجهة الدوافع الأساسيّة للوجود الكيانيّ البشريّ.
وجد إسحاق أيّوب نفسه أمام معضلةٍ وجوديّة: هل يجب عليه أن يستمرّ في الإيمان بالإنسانيّة، أي ببشريّةٍ مفعمةٍ بالتضامن، أم أن يستسلم لخيبة الأمل في عالمٍ تسوده اللامبالاة والعنف؟ كانت هذه الحقيقة المكتشفة تقضم تدريجيًّا آماله، وتعزّز شعوره بالعزلة في عالمٍ أصبح غريبًا ومعاديًا. هذه المواجهة بين مثاليّاته والواقع القاسي للوجود كانت تُبْرز الصعوبة في الحفاظ على الإيمان بالخير البشريّ عندما يواجه حجم اليأس والوحشيّة السائدَين. وهكذا، وجد إسحاق نفسه يتساءل من جديدٍ عن قدرة الإنسانيّة على تجاوز ظلماتها، ويعيد النظر في طبيعة التضامن في عالمٍ يفتقر حتى إلى الأمل.
الإطار الجماليّ
الهدف الأبعد الذي يتجاوز الإطار الجماليّ لرواية حارس أشجار المقبرة هو أن تكون أساسًا للنسيج الاجتماعيّ من خلال تعزيز الروابط بين الأفراد، والمثبَتة ضمن إطارٍ قانونيٍّ مصاغٍ بدقّة. من خلال تقديم تحليلٍ نقديٍّ للعلاقات الاجتماعيّة واستكشاف آليّات التنظيم الاجتماعيّ، تلعب الرواية دورًا حيويًّا في تعزيز «رأس المال الاجتماعيّ» أي الجماعة الإنسانيّة. فهي تهدف إلى دعم التماسك الاجتماعيّ من خلال دراسة التفاعلات البشريّة، من خلال منظار القيم والمعايير الجماعيّة. وبالتالي، تُسْهِم الرواية في استقرار الهياكل الاجتماعيّة وتقديم مشروعيّةٍ للقوانين التي تنظّم الحياة المشتركة، ممّا يعزّز العقد الاجتماعيّ وعمليّات التكوين الجمعيّ.
الرحلة الوجوديّة
في الختام، تكشف رواية حارس أشجار المقبرة كيف يغوص عاطف صالح في أعماق الوجود، مستكشفًا «الكائن لذاته»، ويرتقي بالسعي وراء المعنى من خلال تساؤلاتٍ أدبيّةٍ رفيعةٍ قدّمها بطريقةٍ جماليّةٍ أنيقةٍ رشيقة.
التجربة الإبداعيّة هي ملاذٌ للدهشة الجماليّة والتفكير الإنسانيّ المتواصل، المتحرّرة من الأحكام النهائيّة. فكلّ عملٍ فنيٍّ ليس مجرّد شيءٍ ماديٍّ وحسب، بل هو سردٌ يتجاوز حدود الزمان والمكان، وهو جزءٌ من الوجود البشريّ الذي لا يخضع لمنظور الحكم الأخلاقيّ. وهكذا، تجسّد رواية حارس أشجار المقبرة لعاطف صالح هذه الرحلة الوجوديّة في البحث عن المعنى والإنسانيّة معًا. ومن هذا المنطلق، تستحقّ هذه الرواية أن تتحوّل إلى فيلم، لأنّها تتجاوز مجرّد كونها وسيلةً للثقافة أو الترفيه، لتصبح دعوةً إلى التأمّل العميق في الحالة الإنسانيّة والتناقضات التي تشكّل وجودنا.
https://alqabas.com/article/5937095 :إقرأ المزيد
https://alqabas.com/article/5937095 :إقرأ المزيد