المثقفون في مواجهة عالمنا الهمجي
يصفون عالمنا بـ “العالم الرقمي” ، ولكنه فيزيائيًا ، “عالم تناظري” أو “تماثلي”. ليس من وجهة نظر عملية نقل البيانات فحسب، بل شمولية العملية نفسها في المنظومة الإلكترونية ودقتها. فنحن نتعامل مع إشارات تماثلية في المواقع والموبايلات والاتصالات الفضائية والتلفزيون وفق منظومة تناظرية. إن الدرس الخالد الذي نبّهنا اليه جورج أورويل منذ زمن طويل: “ابقَ إنسانًا حتى لا تصبح إنسانًا آليًا”.
وبعد مرور السنين على هذه الصرخة، ، على الأجيال الحديثة اكتشاف أهمية أعماله، لكي يتأملوا في العالم الذي نعيش فيه وفي العوالم المحتملة التي يمكن أن نجد أنفسنا نعيش فيها. لكي لا يتكرر ما قاله أورويل: “إذا كنت تريد صورة للمستقبل، فكر في حذاء يسحق وجه الإنسان. للأبد.”
إن العقل البديهي هبة، والعقل الرشيد خادم مخلص. والحدس ليس حاسة سادسة، وليس مدخلاً روحانيًا، الحدس هو الذكاء اللاواعي الذي يعتمد على سنوات من الخبرة، بغض النظر عن الجنس. تشعر على الفور بما يجب عليك فعله، لكن لا يمكنك شرحه. وبطبيعة الحال، فأن الخوارزميات تفتقد شيئًا أساسيًا، وهو الحدس. ما نفع الذكاء الاصطناعي إذا لم يقل الحقيقة؟ هل سيكشف لنا الحكّام المستبدين والفاسدين؟ هل سيظهر لنا المحتلين والغزاة وسرّاق الشعوب؟ هل سيقدّم مجرمي الحروب إلى المحاكمة؟ هل سيحلّ لغز أدبي واحد في أبسط رواية كلاسيكية؟ هل سيكتب لنا سيناريو أقوى من “العراب”؟ هل سيكتب سونيتات مثل شكسبير؟
هل سيكون أبلغ من المتنبي وأعمق من المعري وأكثر شمولية من الجاحظ؟ هل سيحكم بالعدل على المتهمين الأبرياء الذين يملأون سجون الكوكب؟ هل سيفرّق ما بين الذكر والأنثى؟ هل سيجعل زوجتك تحبّك ويعلّم زوجك كيف يصون العشرة؟ هل سيعلّمك الرجولة ويلقنك كيف تكون الأنوثة؟ هل سيربّي أطفالك على البذل والعطاء والنخوة والقيم العليا؟ هل سيحدّ من العنف والكراهية والعنصرية والطائفية؟ هل سينهي الحروب الدينية والعرقية؟ هل سيفضح التنظيمات السريّة التي تتحكّم بموارد الكوكب؟ هل سيوقف استغلال العقول ونزيف الأدمغة وشراء الذمم؟ هل سينصح المرهقين من الحياة نصيحة واحدة نافعة؟ هل يستطيع إنقاذ نفسه فيما لو قرّر البشر تدميره؟
هذه المشكلات البشرية التي صنعها البشر بأنفسهم، كما صنعوا الذكاء الاصطناعي، لا يمكن للبشر أن يحلوا واحدة منها. يريدونها حرباً ما بين عالمهم المتحضر وعالمنا الهمجي؟ هذا هو بيت القصيد من الدعاية الجديدة وما يكرره زعماء بعض دول العالم.
حسناً، أنت تريد إنشاء مصطلح لن يعارضه أحد، وسيؤيده الجميع؟ ولكن لا أحد يعرف ما يعنيه المتحضر، لأنه لا يعني أي شيء. علماً، بأن الوقوف مع مجرمي الحرب والطغاة والعنصريين لا يدخل ضمن خانة “حرية الرأي” والفكر. السائد هو التماهي أو التغاضي عن الظالم والغاصب، لأنه لا يوجد سوى نوع واحد من الإنسانية، لا توجد سوى حضارة واحدة، لا يوجد سوى حق واحد. هناك من يصنع المأساة وهناك من يتعرض لها.. والأغلبية يتفرجون عليها، والقلة المبَجلة تتصدى لها، هذا هو وجه حضارتنا القبيح.
لقد تألف جزء كبير من تاريخ البشرية من صراعات غير متكافئة بين “الذين يملكون” و”الذين لا يملكون”. كما لو أن أيامنا تنمو أقل من الآخرين. يعتبر تولستوي أن “المجانين يحققون أهدافهم أفضل من الأصحاء”. لأنه ليست لديهم حواجز، ولا خجل، ولا حتى خوف، لذلك في المجتمعات المستبدة، الجنون هو الحرية الوحيدة. وإذ ننظر إلى العالم “المتحضر” المتعالي، فلا بد من مواجهته خارج الضوابط الجامدة، بحالة جنون تتغلب على الخوف العاجز. هناك نصيحة سهلة نستنتجها مما كتبه أفلاطون في “اعتذار سقراط” لا تكلف الكذب والاستجداء والمسكنة وهي: حاول أن تكون جيداً قدر الإمكان. ماذا لو اكتشفت أن أكثر المخالفين وقاحة في الكوكب، يتظاهر بالطيبة، وأنك مطالب أن تصدق طيبته، وتوافق أن يكون هو محبوباً وأنت المنبوذ؟ إن مَن يتجاوز حدوده، لا تنفع معه الإدانة، بل أن يوقف عند حده. أن تكتب أو لا تكتب، هذا هو السؤال. إذا اختار أفلاطون النفي ، فلن يكون لدينا سقراط اليوم ، ولا إرث فكري ، ولا عصر تنوير، ولن نذهب إلى الفضاء ونبتكر الذكاء الاصطناعي. فاسيلي غروسمان كتب في روايته “ الحياة والمصير” عام 1959 (تم نشرها عام 1980): “لقد رأيت أنه ليس الإنسان هو العاجز في النضال ضد الشر ، ولكن الشرّ هو العاجزفي النضال ضد الإنسان”. هذا ليس موقفًا شخصيًا ، لكن التاريخ هو سيد النفاق على الإطلاق. لذلك يمكن اعتبار أن حقبة ما انتهت، عندما تستنفد أوهامها الأساسية. وهذا التشاؤم في جزء كبير منه، إدانة للتناقض بين المثالي والواقعي. إنه شعور عام بالضيق من الحساسية، مثل فيضان في العقل والذي يشوبه لون باهت إلى جميع الكائنات. شيء منتشر.. يصنع الفارق بين الإنسان والروبوت، يصبح مخدرًا، ويتحجر، ويسقط مثل اللحم الأسود الميت عندما تهاجم التقنية الحواس ويهيمن الذكاء الاصطناعي على العقل. في هذا العصر الذي التهمت فيه الثقافة الاستهلاكية وشلّت أرواح الناس، وأقامت المحتويات السريعة والرخيصة، الحواجز بين الإنسان والأسئلة الحاسمة لوجوده، ووعيه بنفسه ككائن روحيّ.
دعونا نتوقف عن تسميته “الذكاء الاصطناعي” ونطلق عليه بما يفعله أو يقدر عليه، إنه بكل بساطة برأيي عبارة عن “برنامج انتحال” لأنه “لا ينشئ أي شيء، ولكنه ينسخ الأعمال الحالية للفنانين والأدباء والعلماء والمؤرخين والفلاسفة ويعدلها بشكل كبير” لكي يهرب من قوانين حقوق التأليف والنشر للمؤلف.
إنها أكبر سرقة للملكية الفكرية – بوصف نعوم تشومسكي في نيويورك تايمز – عدد 8 مارس 2023 – منذ وصول المستوطنين الأوروبيين إلى أراضي الأمريكيين الأصليين. لقد قضينا حياة كاملة، بقيظها وأمطارها، بالمشي مسافات طويلة في عزّ البرد في الصباح الباكر، لكي ننهي المدرسة الابتدائية. الآن، الطفل مولود توًا، يوجهه متطفلون وكسالى وفشلة ولصوص، لكي يعلموه السرقة من الغباء الصناعي، بطرق لا يعرفها المدرسون. هكذا صار الانحطاط.. رسمي وبمباركة الملايين.. والناس… لم يعودوا يكتبون، بل يقومون بالتدوين. بدلاً من التحدث، يرسلون رسائل نصية، بدون علامات ترقيم أو قواعد نحوية. في الجانب الآخر من هذا العالم، وفي عصر المقاطع الصغيرة المسلية والانحراف الأخلاقي المريع والعدوانية والعنصرية والجشع والجحود، وفي عصر العقول المعوّقة التي تظنّ إن الذكاء الصناعي يفكّر بدلا عنها، وفي عصر المدربين المزيفين الذين ينصبون على الناس ويسرقون جيوبهم بالتفاهات التي يثرثرون بها “أونلاين”، وفي عصر الانحطاط الكامل في القيم وحقوق الكائنات الحيّة والتسلّط والتجويع والإبادة الجماعية وفرض الإرادة بالقوة الغاشمة.
في العصر نفسه، المثقف لا يواجه وحده، بل معه الناس. أولئك الذين يقطعون عشرات الكيلومترات في ظروف جوية بالغة الصعوبة وربما بالكاد يمتلكون تذاكر وسائل المواصلات العامة، من أجل أن يذهبوا إلى قاعات المطالعة في المكتبات العامة .. هؤلاء الذين اختاروا القراءة والتعلّم الذاتي.. إنهم ثمرة الجيل والأقلية النادرة العظيمة.
أما الشغيلة، فلم يكتبوا.. لم يرسموا.. لم يغنوا، كانوا يعملون يدويًا بهدوء وصمت
من الفجر حتى الغروب.. لم يفقدوا أكثر، لم يكسبوا أكثر، ولم يتخيلوا لعبة جديدة
لغاية ما جاءت العواصف، وارتفعت الأمواج، ونُصِبَت الآلات.